آثار الصلح في المعاملات المالية والقضايا الاسرية والجنائية

آثار الصلح في المعاملات المالية والقضايا الاسرية والجنائية
آثار الصلح في المعاملات المالية والقضايا الاسرية والجنائية

آثار الصلح في المعاملات المالية

المعاملات: جمع معاملة، وهي مأخوذة من عاملت الرجل أعامله معاملة أو التعامل مع الغير.

المالية: المالية نسبة إلى المال وهو في اللغة ما ملكته من جميع الأشياء.

الدين: هو ما يثبت في الذمة، كثيرا ما تمر بالإنسان ظروف تجعله بحاجة إلى المال فيستدين، ثم تمر به ظروف أقسى فلا يستطيع الوفاء، فيحاول الإنظار من الدائن وقد رغب الله سبحانه وتعالى بإنظار المعسر إلى حين ميسرة كما جاء في قوله تعالى  (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍۢ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍۢ ۚ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[1] وفي الآية إشارة إلى العفو عن المعسر، وقد يتفق الطرفان على رفع النزاع و قطع الخصومة عن طريق عقد الصلح ، سواء باستيفاء جزء من الدين و تأجيل الباقي أو باستيفاء الدائن جزء منه و إسقاط الجزء الآخر، وقد ذكر الفقهاء صورا للصلح في الدين أجملها فيما يأتي:

  • إذا ادعى شخص على آخر بألف درهم حالة في ذمته، وصادق المدعي عليه على الدعوى فصالحه المدعي على خمسمائة حالة ، فيعد صلحا صحيحا عند جمهور الفقهاء ، باعتبار أن المدعي استوفى بعض حقه وأبرأ المدين من الباقي ، وخالف الحنابلة فقالوا : إذا كان بلفظ الصلح أو الإبراء أو الهبة المعلقين على شرط لا يجوز هذا الصلح معللين ذلك بأن هذا هضم للحق ، فإذا انتقى الشرط (الفاسد) صح الصلح عندهم وفاقا للجمهور[2].
  • ادعى مدع على آخر مائة غرام ذهب حالة فأقر أو أنكر وصالحه على مائة وعشرين غراما مؤجلة ، يعد هذا الصلح غير صحيح على رأي جميع الفقهاء وذلك للزيادة و التأخير، لأن الذهب من الأموال الربوية ، ويعد هذا الصلح صورة من صور التحايل على أحكام الشريعة ، وقد أجمع الفقهاء على عدم جواز التفاضل و النسيئة فيها ، وفي كل صنف من الأصناف الربوية لحديث عبادة بن الصامت قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن بيع الذهب بالذهب و الفضة بالفضة و البر بالبر و الشعير بالشعير و التمر بالتمر و الملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى) فهذا الحديث نص على منع التفاضل في الصنف الواحد من هذه الأصناف .

ومما لا شك فيه أن للصلح أثره في إزالة أسباب الخصومة كما أن في الصلح تعجيلا لتمكين المدعي من بعض حقه، وهو ما لم يكن ليصل إليه إلا بعد الحكم والتنفيذ وقد يطول الأمر إضافة لذلك أن الصلح على إسقاط بعض المال فيه تفادي ما يترتب على الفصل في الخصومة من النفر بين أبناء المجتمع ، وإذا ما اتفق الطرفان على مثل هذه المعاملة فستنتهي الخصومة التي قد لا ينهيها القضاء .

آثار الصلح في قضايا الأسرة

الأسرة مفهوم شامل وواسع، فالأسرة لغة هي الدرع الحصينة، إذا كان الفرد هو اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، فإن الأسرة هي الخلية الحية في كيانه. والفرد جزء من الأسرة يأخذ خصائصه الأولى منها وينطبع بطابعها، ويتأثر بتربيتها. قال تعالى: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ)[3]

من أعظم أنواع الصلح ، الصلح بين الزوجين المتخاصمين ، فإن الأسرة تقوم على المحبة والألفة وتدون بدوامها ، فإذا انتهت المحبة والألفة وحل الشقاق صار الفراق، ولابد للمصلحين من القيان بواجبهم تجاه الأسرة المتفككة والسعي في الإصلاح بين الأزواج .

ومن التدبر في أحكام آيات القرآن يظهر أثر الصلح في تماسك الأسرة وديمومة بقائها، وتحقيقا لهذه الحكمة فإن من واجب القضاء أن يرفع النزاع و الشقاق بين الزوجين و يقطع الخصومة بينهما ، وهنا يبدو حرص القضاء على تحقيق الصلح بينهما، و استمرار الحياة الزوجية التي يسودها الهدوء و المحبة و التراحم، وعلى القاضي أن يعمل جاهدا من أجل الحفاظ على العلاقات الزوجية و اعادتها إلى سابق عهدها حرصا على بناء الأسرة وتكافلها و تماسكها و حماية للحياة الزوجية من التفكك و التصدع ، وما يترتب عليه من آثار سيئة على الأبناء ، لأن العلاقة الأسرية ليست علاقة ثنائية بين الرجل و المرأة وحدهم، ولكنها علاقة متعددة الأطراف تشمل الزوجين و الأولاد و المجتمع. وللأبناء حقوق على الآباء يغفلها كثير من الآباء والأمهات، بل لا يعلمون بوجودها أصلا.

فإذا تم الصلح بينهما بعد الشقاق فإذا تم الصلح بينهما بعد الشقاق دون اللجوء إلى القضاء أو أثناء التقاضي وقبل الفصل فيه، عادت العلاقة الزوجية إلى طبيعتها وعاش الأبناء في كنفهما بما يعين على صلاح حالهم ويجنبهم مزالق التشرد والضياع.

وقد نظم قانون الأحوال الشخصية الاماراتي الخطوات التي يجب اتباعها في فض الشقاق والنزاع بين الزوجين اذ جاء في المادة 118/1 (إذا لم يثبت الضرر واستمر الشقاق بين الزوجين وتعذر على لجنة التوجيه الأسري والقاضي الإصلاح بينهما عين القاضي بحكم حكمين من أهليهما إن أمكن بعد أن يكلف كلا من الزوجين تسمية حكم من أهله قدر الإمكان في الجلسة التالية على الأكثر وإن لا في فيمن يتوسم فيه الخبرة والقدرة على الإصلاح إذا تقاعس أحد الزوجين عن تسمية حكمه، أو تخلف عن حضور هذه الجلسة وسكون هذا الحكم غير قابل للطعن فيه).

ومن هنا يظهر لنا أن القانون فصل قضية الإصلاح بين الزوجين في الشقاق وركز على بذل الجهد والطاقة قدر المستطاع في الإصلاح بين الزوجين وعدم الوصول إلى الطلاق إلا في حالة الضرورة وهو ما جاءت به الشريعة الإسلامية.[4]

آثار الصلح في الجرائم والجنايات.

الجنايات إما أن تكون حدوداً فلا صلح فيها، أو قصاصاً فيرد فيه الصلح، أو تعازير، فإن غلب فيها حق الله منع الصلح في حدوده، وان غلب فيه حق العبد جاز الصلح فيه والاعتداء على الإنسان بالقتل أو القطع، أو الجرح من شأنه أن يثير ضغائن النفوس ويحفز المعتدي عليه وعشيرته على السعي إلى الاقتصاص، بل قد يتجاوز مقداره الشرعي، إشفاء للغليل وإرضاء لثأر النفس، وإثباتاً للمقدرة على الغلبة والانتصار، وفي التجاوز ظلم وتعميق لمعاني البغضاء والشحناء.

وكان من حكمة الله تعالى أنه دعا إلى الصلح في هذه الجنايات ووجه المجني عليه أو وليه إلى إحسان العفو، كما وجه الجاني إلى إحسان الأداء فيما تصالح عليه، لقوله تعالى ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[5]

ومن القضايا المهمة ذات الصلة بهذا الموضوع صلح الولي أو الوصي على القاصر عن دية موروثة وهو أمر اتفق الفقهاء على عدم صحته لأن فيه تنازلاً عن حق القاصر الذي لا يملكه الولي أو الوصي، فقد قال تعالى (وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن) وعليه فالتبرع بمال اليتيم ليس قرباناً بالتي هي أحسن، ولا يجوز للولي أو الوصي إسقاط حق مالي ثبت للصبي لأن الإسقاط هنا بمثابة التبرع وهو من التصرفات الصارة بالصبي، ومن المتفق عليه لا يجوز للولي أو الوصي أن يتصرف بما فيه ضرر على القاصر.

ولا يخفى ما في الصلح من آثار طيبة تزيل المنازعة وتقوي العلاقة بين المتخاصمين، ففي الصلح في القتل مثلاً إحياء للقاتل بعد أن مُكن ولي المجني عليه من القصاص منه، كما فيه إسعاد لأهل الجاني بالإبقاء على حياته وذلك يؤدي إلى شكرهم أولياء المجني عليه، وبعث لهم على بدء علاقات طيبة مقدرين ما لأولئك عليهم من فضل وإحسان، كما فيه ترويض للنفس على قبول العفو والصلح ومن ثم الصفح بعد كظم الغيظ[6].

إن من الآثار العظيمة للصلح يكفي الإشارة إلى المعاني التي تضمنها الصلح بوصفه أفضل أسلوب وقائي يقطع النزاع ويرفع الخصومة في العلاقات الأسرية والمالية، ويحد من الآثار السلبية للجريمة على المجتمع، لأن أهمية الصلح تبرز وقت المشاحنة والبغضاء والخصومة والغضب والاختلاف في الرأي، وقدرته على إطفاء نار الفتنة وإزالة الخصومة وسكون النفس وهدوئها.

وقد ثبت بما لا يدع للشك مجالاً بأن أثر الصلح لم يكن أثراً نظرياً بحتاً، كما هي الحال في كثير من الأنظمة التي تضمنتها التشريعات الوضعية، وإنما كان أثراً عملياً تطبيقياً، وفي تاريخنا الإسلامي المشرق الكثير من الشواهد على أثر الصلح في إصلاح المجتمع الإسلامي والارتقاء به إلى مستوى المجتمع المثالي الذي تحدث عنه الفلاسفة في تصوراتهم وتأملاتهم، فقد نجح الصلح في المدينة المنورة في بناء مجتمع جديد وتنقية نفوس أبناءها من كل معاني الشر ليستبدل بها معاني الخير والمودة.

والصلح بناء على ما تقدم هو خلق جميل وخصلة حسنة ينبغي أن نربي عليها أبنائنا لتكون لديهم ملكة تجعلهم أهلاً للمسؤولية الأخلاقية والدينية تجاه مجتمعهم وأمتهم.

المصادر

[1] سورة البقرة: الآية 280

[2] محمود محجوب عبد النور، الصلح وأثره في إنهاء الخصومة في الفقه الإسلامي، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 1999

[3] سورة آل عمران، الآية 34

[4] عبد الله بن صالح الفوزان، الصلح في الفقه الاسلامي، كلية الشريعة، جامعة ام القرى، ط3، القصيم، 2000

[5] سورة البقرة: الآية 178

[6] محمود محجوب عبد النور، الصلح وأثره في إنهاء الخصومة في الفقه الإسلامي، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 1999