لاضرر ولا ضرار رعاية المصلحة عند الطوفي وجمهور الأصوليين

لاضرر ولا ضرار رعاية المصلحة عند الطوفي وجمهور الأصوليين
لاضرر ولا ضرار رعاية المصلحة عند الطوفي وجمهور الأصوليين

المقدمة

تمثل المصلحة في احكام الشريعة الاسلامية من خلال التعرف على مقاصد تلك الاحكام والتشريعات ، ولا خلاف في ان الدين الاسلامي جاء ليحقق ما فيه المصلحة لكافة العباد ، فقد أرسل الله انبياءه مبشرين ومنذرين منزلين بشريعة الله الحق التي تحمل رحمة للناس اجمعين في الدارين ، ففي دنياهم من نيل المصالح في الخيرات ، وكذلك ما فيه مصلحة في الأخرة من نجاح وفوز بالجنة التي وعد الله بها المتقين ، قال المولى عز وجل (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[1]

ومن المتفق عليه بين المسلمين كافة بأن المصدر الأول للشريعة الاسلامية واحكامها يتمثل في القرآن الكريم ، ومن بعده تأتي سنة النبي عليه أفضل الصلاة وازكى التسليم والمتمثلة في الأحاديث النبوية الصحيحة والروايات الصحيحة عن النبي ، وهي ما مثلت المصدر الثاني والذي يأتي في التفسير والشرح لمقاصد الشريعة في القرآن الكريم وكذلك ما فيه من توجيهات وسنن صحيحة تحمل في مغزاها مصلحة عظيمة لكافة المؤمنين.

ولأهمية التعرف على المصلحة التي تحققها الشريعة الاسلامية في كتاب الله وسنة نبيه وسنن التابعين من بعده ، فقد أسهم في ذلك العديد من العلماء والباحثين في اصول الشريعة الاسلامية ، وهم من الرواد الذين كان لهم بصمة في هذا العلم المقاصدي الهام ، ومنهم ظهر الإمام الطوفي الذي اشتهر بين المحققين والعلماء في اصول الشريعة وفروعها كدراسة المصلحة في احكام الشريعة ومقاصدها ، وهو الأئمة الذين لمع نجمهم وكان لهم العديد من المؤلفات التي اصبحت مرجعاً أولياً للعديد من الدارسين في هذا العلم.

والمصلحة بمعناها تحمل اهمية عظيمة في حياة الناس وتحقيق تطلعاتهم بالطرق المشروعة ، ولذلك فقد اتت احكام الشريعة الاسلامية في بيان مقاصدها انها تسعى لتحقيق تلك المصالح التي تلبي احتياجات الفرد والمجتمع بالشكل الصحيح.

وكون المصلحة أحد مواضيع الدراسات المقاصدية في اصول الشريعة الاسلامية ، فقد اعتنى بها المسلمين وخاصة جمهور الاصوليون بالبحث والدراسة المفصلة لها ، وكان للعلماء الامة والباحثين في اصول الفقه والشريعة الاسلامية ، دور كبير في شرح العديد من جوانب هذا الموضوع ، كون المصلحة تمثل من اساسيات الدراسات المقاصدية والاصولية في الشريعة الاسلامية ، ومن هؤلاء العلماء نجد الشاطبي والشاشي والطوفي والبوطي وغيرهم ممن كان لهم الفضل من بعد الله في إبراز هذا العلم كـ علم مستقل بذاته.

التعريف بالمصلحة

يمكن ان يعرف مفهوم المصلحة لغتاً واصطلاحاً كما جاء عند البوطي في كتابة ضوابط المصلحة[2] ، فالمصلحة بالمعنى اللغوي تعرف على انها الفائدة والمصلحة لفظ مفرد لـ المصالح ، وهي بمعنى الصلاح في الامر والإستفادة منه سواء في جلب الخيرات ودفع المساوئ والمضرات ، كذلك تعرف المصلحة بالمعنى الإصطلاحي العام على انها الفوائد والمنفعة المستفادة من مقاصد احكام الشرع الاسلامي التي اراد بها رب العباد الرحمة والصلاح لعبادة في امور دينهم ودنياهم سواء بتحقيق المصالح وجلب المنافع ، او من خلال دفع المضار عن الانسان وهو ما يمثل مصلحة كبرى للإنسان في ذلك ، وتهدف المصلحة في احكام الشريعة على كـ حفظ النفس والمال والدين والنسل والعقل للفرد والحفاظ على المجتمع متوحد متماسك قوي والاهم من ذلك ان يكون مؤمن وموحد لله عز وجل.

والمصلحة هي الغاية الأسمى في حياة الناس ، حيث تمثل غريزة وفطرة في كل شخص لتعطي مبرراً في كل قول وفعل يقوم به ، وبها يسعى لتحقيق المنافع والمصالح التي تمثل هدفاً رئيسي لديه ، وهذه الدوافع او الغريزة البشرية مثبته علمياً وعملياً فالمصلحة هي المحرك الاول للإنسان سعياً في تحقيقها.

ولضرورة تحقيق المصالح في حياة الانسان ، فقد وضعت احكام الشريعة الاسلامية لتحقق في مقاصدها مصلحة العباد الدينية والدنيوية بالطرق المشروعة والصورة الصحيحة والمضبوطة ، سواء في جلب المنافع او دفع المضرات وفقاً لتعاليم الشريعة واحكامها ، لتضمن بلوغ تلك المصالح بأسهل الطرق وأفضلها والتي لا تحمل اي شك فيها.

وقد اهتم الاسلام بموضوع المصلحة بشكل اساسي وذلك لأهمية المصلحة في حياة الانسان ، وقد نظمت احكام الشريعة المصلحة على ان تتم بالصورة الصحيحة والمكتملة ، سواء في تحقيق المصالح للعباد ، وكذلك في دفع المضار والمساوئ عنهم.

والمصلحة بشكل عام هي مسألة ذات عدة ابعاد ، فيمكن ان تحمل على المستوى العقائدي والفلسفي والتشريعي والقانوني ، ولذلك فقد كان للجدل ان يثار حول هذا الموضوع ، ففي الجانب الفلسفي وقياس المصلحة عليه هو ما جعل المصلحة تنحصر بشكل دنيوي سواء من حيث المعايير البسيطة التي لا تعطي هذا المفهوم الحجم الكامل ، فتؤخذ المصلحة لدى علماء الفلسفة والتنظير في مقياس الزمان الذي يحدد المصالح والمفاسد وفقه ، وايضا في مقياس المحيط المادي الذي يضع محددات مادية للمصلحة ، وتسعى تلك التنظيرات لخلق صورة اخرى للمصلحة تتمثل في إشباع الرغبات الدنيوية البسيطة بعيداً عن تحقيق المصالح الاساسية التي وضحتها احكام الشريعة الإسلامية.

المصلحة في الشريعة

اعتنى الاسلام بأحكامه وتشريعاته المختلفة بمفهوم المصلحة على العكس من الانظمة الوضعية التي نظرت إلى المصلحة من جانب دنيوي بحت ، ولكن الاسلام سعى في تحقيق المصلحة للعباد سواء في الجانب العام والمصلحة الخاص التي لا تتعارض مع احكام الدين وتشريعاته ، بل اكدت كافة التشريعات والاحكام الاسلامية على اهمية المصلحة وتحقيقها بالطرق الصحيحة.

وكذلك اعتنى الاسلام بالمصلحة على العديد من الجوانب التي حددت النظرة الشرعية لمفهوم المصلحة وذلك من خلال ما يلي :

لا يقتصر متغير الزمان على المصالح الدنيوية فقط ، بل ينظر له بشكل أكبر من خلال المصالح التي تتحقق في الدنيا والأخرة ، وكذلك المصلحة الدنيوية ليست محصورة بل تأتي ثمارها على مراحل عديدة كون احكام الشرع نزلت من لدن خبير عليم ، يعلم بما ينفع الناس وماضرهم ، فإن اتباع نهجه وتطبيق احكام شرعه يحقق مصالح عديده لا علم لنا بها.

فقد تتحقق ثمار تلك المصالح المكتسبة متأخرة ولا نعلم بذلك ، وكذلك الحال في عنصر المكان ، فلا تنحصر المصلحة في نطاق محدود بل تمثل بشكل اوسع وأكبر من اي مصالح دنيوية وفق نظريات فلسفيه وانظمه موضوعه ، ونستدل على ذلك من خلال العديد من الأدلة والقصص المثبتة في تحقيق المصلحة وفق احكام الشريعة ، ومالها من نفع يفوق كافة الانظمة الفلسفية والوضعية.

كذلك المصلحة في الاسلام لا تتمثل في هيئة المصالح المادية فقط ، بل تمتاز بتلبية المتطلبات الروحية إلى جانب الجسدية ، حيث تحقق المصلحة في احكام الشريعة الاستقرار النفسي الداخلي لدى الإنسان ، من حيث منح الطمأنينة والسكينة التي يسعى لها الانسان لسد الفراغ الداخلي الذي لا يمكن لاي انظمة او تفسيرات فلسفية ان تلبي هذا الاحتياج الهام الذي يتربع على قمة المتطلبات الهامة للإنسان.

وتمثل الشريعة الاسلامية في احكامها ومقاصدها الشرعية عنصر اساسي في تغذيه الروح بالاستقرار المطلوب والاحتياجات النفسية الضرورية للإنسان ، قال المولى عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ)[3] ، ويقصد بها الشفاء الحقيقي للأمراض النفسية التي تصيب الانسان كالحسد والحقد والضيق والهم وغيرها .. وفي الاعراض عن طاعة الله والانصراف عن احكام شرعه والعمل بها ، تبدأ حياة الانسان بالاضطراب كون الأنظمة الاخرى لا يمكن ان تلبي الاحتياج النفسي الضروري للإنسان والاستقرار الداخلي له ، قال تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)[4]

ولا يمكن للأعمال الدنيوية من تحقيق المصالح وتلبية المتطلبات الداخلية للإنسان وتحقيق الاستقرار النفسي وإشباع الفراغ الداخلي للإنسان ، حيث وان الأحكام الشرعية تمثل تزكية نفسية للإنسان من الأمراض التي تصيب قلبه وشفاء منها ، قال سبحانه وتعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى)[5]

والتزكية تكون من خلال اتباع التوجيهات السماوية التي ذكرها الله في كتابه الكريم ، واداء العبادات والتقرب من الله بالطاعات وعمل الخيرات ، كون ذلك سبب في النجاح في الدارين وهي المصلحة الكبرى التي يسعى لها كل إنسان ، فالنجاح بالدنيا يكون بالتوفيق والمعيشة الكريمة والراحة النفسية دون القلق والاضطراب النفسي الداخلي ، والنجاح في الدار الاخر في الفوز بجنات النعيم التي وعد الله بها عباده المخلصين ، ولا يتحقق ذلك إلا بالمضي وفق احكام الشرع وتعليماته.

كذلك جاء في الطمأنينة التي يحققها اتباع احكام الشريعة وتعليماتها والتقرب إلى الله بالعبادات وما في ذلك من مصالح على العون والصبر والطمأنينة ، قال تعالى (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ)[6]

وتمثل المصلحة في الشريعة الاسلامية واحكامها ، إلى ان المصلحة الاساسية والاهم في تحقيقها ، هي في مصلحة الدين التي هي مصدر باقي المصالح الآخرى ، فلا يوجد اي تعارض في تحقيقها مع المصالح الآخرى ، كون تحقيق مصلحة الدين يراعي باقي المصالح ويسعى في تحقيقها ، بعكس الكثير من الانظمة والتشريعات الوضعية ، فالإسلام يراعي مصلحة العباد بدرجة اساسية ،

قال تعالى (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)[7] ، حيث تشير الآية السابقة إلى تأكيد ان المصلحة الدينية هي الخير والاساس في مصالح العباد ، بعكس المصالح التي يضعها علماء الفلسفة والاخلاق ، حيث تمثل نظرتهم لمفهوم المصلحة من جانب دنيوي.

والمصلحة التي تحققها الشريعة الاسلامية في احكامها وتعاليمها ، هي مصلحة عامة لكافة الناس لا تقتصر على فئة معينة او جماعة بحد ذاتها ، بل تسعى لتبليه المتطلبات العامة للناس وتحقق النجاح والفوز في الدارين ، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ)[8].

وكذلك كان للسنة النبوية وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام دور كبير في الإهتمام بقضية المصلحة للعباد ، فقد جاء عن ابي هريرة رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال (الإيمان بضع وسبعون شبعة ، أعلاها شهادة ان لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)[9]

وهذا الحديث يحمل دلالة واضحة عن اهتمام الشريعة الاسلامية بقضية المسألة بشكل كبير وكيف ربطت تحقيق المصلحة للعباد ، بـ الإيمان بالله وتوحيده ، وهذا ما يوضح إهتمام الإسلام بالمصلحة ورعايتها بالشكل المطلوب والذي يتوافق مع احكام الشريعة ومصالح الناس ، ولا يحمل اي اضرار تلحق بتحقيق المصلحة للعباد.

رعاية المصلحة بين الطوفي وجمهور الاصوليين

اهتم المسلمون بموضوع المصلحة وتحقيقها بالطرق الشرعية التي تتوافق مع احكام الإسلام ومقاصده ، وكان جمهور الأصوليون هم الاكثر اخذ بمفهوم المصلحة من الجانب الشرعي ، كونهم يأخذون بمصادر الشرع الاسلامي ودلائله كـ اساس في تفسيرهم للعديد من القضايا والمفاهيم الدينية والدنيوية ، وبما فيها قضايا المصلحة وتحقيقها ، فقد اخذوها من خلال الأدلة الشرعية المتعددة التي راعت هذا المفهوم وفق الأولوية والتنظيم الذي يحددها ، فقد مثلت النصوص القرآنية الدليل الشرعي الاول الذي تأخذ به كافة القضايا والمسائل ، ومن بعده تأتي سنة النبي عليه الصلاة والسلام في ايضاح وتفسير ما صعب وخفي من مسائل شرعية لم يورد فيها القرآن تفصيلاً ، وهذين الدليلين الشرعيين قد مثلا اساس العلوم المقاصدية التي ظهر منها مفهوم المصلحة في مقاصد الشرعية ، والتي تمثلت على مصالح موجبه وحاجيه ومستحسنه وكيفية الاخذ بها وفق الأدلة الشرعية.

وقد ظهر الإمام نجم الدين الطوفي أحد الأئمة الذين ساهموا بشكل كبير في دراسة مفهوم المصلحة من الجانب الشرعي ، وتحقيقها وفقاً لأحكام الدين ومقاصده وتشريعاته الجليلة ، حيث وقد اوضح في رسالة في رعاية المصلحة العديد من الجوانب التي اعطت تعريفاً واضحا حول مفهوم المصلحة في الشريعة الاسلامية ، وكيف تتحقق المصلحة على مستوى الفرد والمجتمع في الحفاظ على وحدته وترابطه

وقد اخذ الاصوليون مفهوم المصلحة من الجانب الشرعي ، وفقاً لما اقتضت فيه الادلة المثبتة من الكتاب والسنة النبوية الشريفة ، والتي تقتضي عدة شروط لتحقيقها بالشكل الصحيح ، اول تلك الشروط هي ان لا تتعارض مصالح العباد مع مقتضيات الشريعة واحكامها بحيث يستوجب وجود تناغم وانسجام بينهما ، وكذلك ان تتقدم مصلحة الدين على باقي المصالح بالوجوب لا التخيير، فمصلحة الدين هي اساس باقي المصالح الاخرى ، وبها تتحقق مصلحة العباد في الدنيا والاخرة.

كما ان المصلحة في تحقيقها تؤخذ بالشكل الصريح دون احتمال او ظن ، وتتميز بالواقعية والعقلانية والانسجام مع المصلحة العامة التي لا تتعارض مع العقل والمنطق الصحيح ، وعند جمهور الاصوليون فتتقدم مصلحة العام على الخاص كون الرسالة الاسلامية عامة وشاملة ليست معنية بجماعة او فئة دون اخرى ، ذلك فقد اهتم الاسلام برعاية المصالح العامة بشكل اساسي بعد المصالح الدينية.

وعند الطوفي في رسالته المشهورة في رعاية المصلحة وفقاً لأحكام الشريعة الاسلامية فقد اخذ بالدلائل الشرعية[10] في دراسة كافة القضايا والمسائل في المصلحة ، وكون الطوفي أحد اعلام الامة في علم الاصول والمقاصد الشرعية ، فقد اخذ بـ النصوص الصريحة من القرآن الكريم كـ مصدر اساسي واول يتبعه الأحاديث النبوية الشريفة التي اعتنت بجانب التفسير والايضاح لأحكام الشريعة ومقتضياتها.

ومن ثم اخذ بالعديد من الدلائل الشرعية الاخرى والتي تتفاوت في قوتها من حيث الاعتماد والاخذ بها ، فقد وضع إجماع الامة يتبعه اجماع اهل المدينة ، ومن ثم القياس في الحكم على اخر ، والاخذ بالمأثورات من اقوال الصحابة ، وبعدها يأتي الاخذ بما اقتضته المصلحة المرسلة وهي المصلحة التي تخضع لأحكام الشريعة في درء المفاسد والأضرار ، وبعدها يأتي الاستصحاب ، ويؤخذ بالبراءة الأصلية ، ومن ثم بالاستقراء ، ومن ثم سد الذرائع ، والاخذ بالاستدلال ، والنظر في الحكم بوجه الاستحسان .. إلخ ، حيث تتوالى الدلائل الشريعة بالترتيب من حيث الاكثر قوة إلى أضعفها بالأخذ.

ويرى الطوفي في قضية تحقيق المصالح وفقاً لأحكام الشرع ومقتضيات الإسلام برعاية المصلحة وتحقيقها ، على ان الاخذ بنصوص الشرع وإجماع الأمة في احدى مسائل المصلحة دون ان يقتضي في ذلك اي مفاسد قد تنتج عنها ، فيجب الاخذ بهما كون تلك الدلائل تراعي المصلحة بشكل اساسي.

اما في الحالة الي يقتضي الاخذ بالنصوص والاجماع حدوث مفاسد تفوق المصلحة المحققة ، فإن الرأي يعود للأخذ بما تقتضيه المصلحة المرسلة ، شريطة ان لا يذكر في ذلك الضرار الناتج اي دليل صريح ينص فيه ، كـ الأخذ بالعقوبات والحدود الشرعية التي نصت عليها الآيات القرآنية ، ولا يعني بالأخذ بالمصلحة ان تتقدم على النصوص الشرعية بالتعارض ، وإنما من باب التوضيح والتفسير لمقاصد الشريعة في احكامها وتعليماتها ، فالأخذ بالمصلحة هو تفسير مقاصد الشرع في احلال المصلحة.

المصلحة في اصول الشرع (لا ضرر ولا ضرار)

كما علمنا ان اصول الشريعة رعت المصلحة بشكل اساسي من خلال النصوص في الكتاب والسنة ، ففي الحديث الحسن الذي رواه ابن ماجة والدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال (لا ضرر ولا ضرار)[11] ، دلالة كبرى في مسألة رعاية المصلحة والاهتمام بها في الجانب الشرعي ، سواء في اثبات منافعها ونفي مضارها ، فـ الضرر يحمل اشارة إلى المفسدة اللاحقة بالغير بصورة مباشرة ، والضرار هو إلحاق المفاسد من باب الرد على لحق من ضرر مسبق ، فيصبح الضرر متبادل وشائع بين كل الاطراف ، ففي الحديث اشارة إلا تجنب إلحاق الضرر بالناس ، ينتج عنه تجنب وصول اي ضرار معاكس ، و أصل الجملة هو "لا إلحاق ضرر بأحد ، ولا فعل ضرار مع احد"[12].

ففي النصف الاول من الجملة ، الذي ينص على "لا إلحاق ضرر بأحد" يقع ضمن الموجب الشرعي في ذلك ، كون النصوص الصريحة في احكام الشرع ، لا نفي فيها ، كإقرار الحدود والعقوبات ، كون المصلحة الاساسية تكون في احقاق العدل والمساواة ، قال الحق عز وجل (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[13] ، وهذه الآية دليل على رعاية المصلحة الشرعية لمصلحة الناس.

كما يشترط في نفي الضرر وجب اثبات المصلحة من نفيه ، من خلال تقديم الدلائل المفسرة لهذا الأمر ، فإن اتفق ترتيب تلك المصادر في رعاية المصلحة فيؤخذ بها بالوجوب ، وان تعارضت مقتضيات المصلحة مع دلائل الشرع حولها ، فيتقدم الاخذ بالمصلحة المرسلة من خلال التفسير والتوضيح لدلائل الشريعة الاصلية ، عدا ما ذكر فيها نص شرعي صريح كالحدود الشرعية والعقوبات ، فلا يتقدم شي على نصوص الشريعة في ذلك ، كون المصلحة تكمن في تنفيذها.

التخيير والوجوب في جلب المصالح ودرء المفاسد

بالرغم مما تقتضيه تحقيق المصلحة من فوائد عائدة على الشخص او الجماعة ، والمصلحة عكس المفسدة في معناها ، إلا ان في بعض الحالات نجد ان في تحقيق المصلحة ينجم عنها مفاسد اخرى ، وهنا يتمثل الاخذ بالمصلحة على وجه التقديم او التأخير ، ويعتمد ذلك على حجم المنفعة المكتسبة مقارنة بحجم الضرر الوراد ، والاخذ بالأولوية التي تحددها الضرورة في الوقائع والاحداث.

وتمثل هذه من القضايا التي شغلت الامة لسنين عديدة حيث ، بدأ علماء الأصول والمقاصد الشرعية في دراسة الموضوع من الجانب الأصولي والعودة لمقتضيات الشريعة واحكامها ، وقد ظهر الإمام الشاطبي كأحد اعلام الامة الذي عنو في مفهوم المصلحة والمسائل المتعلقة بها ، فقد وضع رؤية في كتابة المشهور الموافقات في اصول الشريعة ، وهذه الرؤية تتلخص في طرح عدد من الأمثلة التي تناقش هذا الجانب ، حيث وضع مقارنه في التفضيل والاختيار بين النفس والمال ، فالمصلحة تؤكد على ضرورة تقديم النفس على المال بالوجوب وليس التخيير، فإحياء النفس والحفاظ عليها يتقدم على مصلحة جنبي المال .

ومثال اخر وضعه في المقارنة في المصلحة في الدين والنفس ، فالمصلحة في النفس لا تتقدم على الدين ، لوجود ادله صريحة تقدم الدين على النفس وجوباً ، وهذا الرأي هو المأخوذ عند كافة العلماء الأصوليين ، فالجهاد بالنفس والمال وتقديمهما في سبيل الدين هو الاولى في الاتخاذ شرعاً وحكماً قال تعالى (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ)[14] ، لما في ذلك من مصلحة لاحقه في الأخرة ، كون الجهاد في سبيل الله امر واجب ويترتب عليه مصلحه عظيمة في الفوز بجنات النعيم قال الحق عز وجل (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)[15].

وعند المقارنة في جلب المصلحة ودرء المفاسد فيما لم يذكر فيه نص صريح من الكتاب والسنة ، وجب الاخذ بالقياس ، فإن تقدمت المصلحة المكتسبة على حجم المفسدة اللاحقة تقدم الاخذ بالمصلحة ، وان زاد حجم المفاسد اللاحقة تقدم درء المفاسد على جلب المصلحة.

.فالمصالح في جلب النفع ودفع المضار ، تؤخذ على التخيير في التقديم والتأخير بحسب الدلائل الشرعية الاصلية والاجماع فتؤخذ وجوباً ، وفي القياس والترجيح لما تقتضيه المصلحة وما يترتب عليها ، فتؤخذ بحسب الضرورة والاحداث.

الخاتمة

مثلت المصلحة من القضايا الهامة في حياة الإنسان ، وتعرف على انها الانتفاع والصلاح في الأمر ، وتؤخذ المصلحة وفقاً لعدد من الدلائل الشرعية المختلفة ، والمصلحة هي أحد مواضيع الدراسات المقاصدية في إيضاح احكام الشريعة والمصالح المستفادة من اتباعها والعمل بها.

والمصلحة نوعان إما في جلب المنافع او دفع المضار ، وقد حضي مفهوم المصلحة العديد من الدراسات لجمهور الاصوليين كونها احد المواضيع المقاصدية ، وتؤخذ المصلحة وفق شروط ثابته ، اهمها ان المصلحة تؤخذ بدلائل الشرع ولا خلاف في ذلك بين سائر المسلمين ، كذلك يرى جمهور الاصوليون ان مصلحة الدين تتقدم سائر المصالح الاخرى ، كون مصلحة الدين هي اساس المصلحة في الدنيا والاخرة ، فقد رعى الاسلام المصلحة بالعديد من الجوانب والدلائل النصية من القران والسنة ، وفي الحديث النبوي (لا ضرر ولا ضرار) ، وضح مفهوم المصلحة ودرء المفاسد من الجانب الشرعي الذي لا يتعارض مع احكام الشريعة الصريحة ، كالحدود والعقوبات.

واخيرا تطرق البحث لموضوع هام وهو الاختيار بين جلب المنافع ودرء المفاسد ، وفي هذه المسألة تم الاخذ برأي الشاطبي ، كونه من كبار العلماء في العلوم المقاصدية واصول الشريعة وما يتعلق بها من مصلحة من احكام الشريعة في كتابه المشهور "الموافقات في اصول الشريعة" ، حيث ناقش هذه المسألة في طرح عدة امثله ، نستنتج منها ان المصلحة التي ينجم عنها بعض المفاسد ، تؤخذ في القياس بحجم المنفعة ومقارنتها مع المفاسد اللاحقة ، بحسب الاحداث والوقائع والظروف ، ولكن يستثني من ذلك ما ورد فيه نص صريح ، كالأحكام في الحدود والعقوبات ، فتؤخذ بالمصلحة بالوجوب دون النظر في المفاسد اللاحقة ، كون الشريعة قد نظمت هذه المسألة بالشكل الصحيح الذي يضمن النجاح في الدارين ، فمصدرها العليم الحكيم ، وهو الادرى بما ينفع عباده وما يضرهم ومافيه مصلحة لهم في دينهم ودنياهم ، فالاخذ بتشريعاته واجب كونه امر لا نقاش فيه ، وما عداه فيؤخذ وفقاً للدلائل الشرعية الاخرى بالترتيب حسب قوة الدليل الشرعي ، فالإسلام اساس المصلحة للناس.

المراجع

  • أبي إسحاق الشاطبي. الموافقات في اصول الشريعة الجزء الثاني (الصفحات 39 - 48).
  • محمد سعيد رمضان البوطي. ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية.
  • نجم الدين الطوفي. التعيين في شرح الأربعين (الصفحات 234 - 280).
  • نجم الدين الطوفي. رسالة في رعاية المصلحة.
  • جواد أبوياسين. (2021). خرائط ذهنية أصول الفقه. تم الاسترداد من ارشيف: https://archive.org/details/5_20210308_20210308_2205

[1] سورة الانبياء ، 107

[2] محمد سعيد البوطي ، ضوابط المصلحة ، تعريف المصلحة ، ص23

[3] سورة يونس ، 57

[4] سورة طه ، 124

[5] سورة الأعلى ، 14

[6] سورة طه ، 13

[7] سورة يونس ، 58

[8] سورة النحل ، 90

[9] رواه ابي هريرة واخرجه مسلم في صحيحه

[10] نجم الدين الطوفي ، رسالة في رعاية المصلحة ، ص13 - 18

[11] رواه ابن ماجة والدارقطني مسندا ، حديث حسن

[12] نجم الدين الطوفي ، التعيين في شرح الاربعين ، شرح الحديث الثاني والثلاثون ، ص234

[13] سورة البقرة ، 185

[14] سورة التوبة ، 41

[15] سورة آل عمران ، 169