شرح وملخص كتاب النور المبين في قواعد عقائد الدين ابن جزى الغرناطي

شرح  وملخص كتاب النور المبين في قواعد عقائد الدين ابن جزى الغرناطي
شرح وملخص كتاب النور المبين في قواعد عقائد الدين ابن جزى الغرناطي

المقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله بيته الأطهار وصحابته الأخيار والتابعين إلى يوم الدين، اما بعد..

يعد علم التوحيد واصول الدين، واحد من اهم العلوم الدينية المتنوعة، واولاها بالتقديم والتعليم والنشر والتعميم، حيث ان مصادر العلوم الدينية كاملة هو القرآن الكريم، وكذلك علم التوحيد فإن القرآن الكريم يمثل المصدر الأول والأساسي للأدلة والأحكام في هذا العلم.

أما في معنى التوحيد فيعني به الإيمان المطلق بالله وحده، والتصديق بأسمائه وصفاته وقدرته وانه وحده لا شريك له في الملك والأمر، ومن عظمة هذا الأمر فقد جعله الله مفتاح دخول الإسلام، والذي يعد التوحيد نصف الشهادتين الركن الأول من اركان الإسلام.

ظهر العديد من ائمة المسلمين وعلماء الدين الذين ألفو في التوحيد العديد من الكتب القيمة التي تدرس هذا المجال بشكل عميق ومفصل، وإن من أعظم هذه الكتب.. كتاب
(النور المبين في قواعد الدين) للإمام محمد بن أحمد بن جزى الغرناطي – رحمة الله عليه – المكني بأبي القاسم الغرناطي، المتوفي سنة 741 للهجرة.

وبالرغم من كثرة المؤلفات في هذا المجال، إلا ان ما جعل لهذا الكتاب الأفضلية عن غيره، اللغة السليمة، والأدلة الواضحة، والترتيب السهل، وشموليته العديد من المسائل الإيمانية، واقام عليها الأدلة القطعية التي تخاطب العقل والمنطق.

حيث ان هذا الكتاب ناقش في مجمله ثلاث قواعد اساسية، الكلام في الإلهيات وهو القاعدة الأولى والأهم في كتابة، ثم قاعدة في الكلام في الأنبياء ء والملائكة والائمة والصاحبة، وقبل الختام الذي شمل وصية تناسب مقاصد هذا الكتاب، فقد ناقش قاعدته الثالثة وهي في الكلام في الدار الآخرة.

المؤلف

الإمام ابن جزى الغرناطي،

اسمه الكامل محمد بن أحمد بن محمد بن جزى الكلبي الغرناطي المالكي، ولد سنة 693 للهجرة، في مدينة غرناطة والتي كانت عاصمة للأندلس في ذلك الحين.

كان أحد العلماء والمؤرخين في الفقه الإسلامي، اشتهر مؤلفا وشاعرا وخطيب، وقد كان إماما وخطيبا لجامع غرناطة الأعظم، عاش في فترة كانت بلادة تمر بصراعات شديده بين المسلمين والنصارى على السلطة على الأندلس.

بدأ البحث والتدوين في علوم الدين والفقه الإسلامي ، ألف العديد من الكتب، منها التسهيل لعلوم التنزيل تفسير، والمختصر البارع في قراءة نافع، وأصول القرّاء الستة غير نافع، وتصفية القلوب في الوصول إلى حضرة علام الغيوب، والنور المبين في قواعد عقائد الدين.

كما ان لديه مؤلفات في علم الحديث مثل، وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم، والأنوار السنية في الألفاظ السُنية. ومؤلفات اخرى في اصول الفقه المالكي مثل القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية، وتقريب الوصول إلى علم الأصول.

تتلمذ على يديه العديد من علماء الأمة، امثال الإمام لسان الدين بن الخطيب ومحمد بن محمد الأنصاري المعروف بابن الخشاب وغيرهم إلى جانب اولاده الذين نهجوا منهج ابيهم في العكوف على العلم، والاشتغال بالنظر، والتقييد والتدوين.

عاش حياة زاخرة بالعلم والمعرفة واورث علم عظيم نافع ونصائح جلية، حتى لاقى ربه شهيداً المنية في المعركة الشهيرة بـ طريف في الأندلس سنة عام 741 للهجرة.

التعريف بالكتاب

كتاب النور المبين في قواعد الدين للإمام ابن جزى الغرناطي، أحد اهم كتب التوحيد، صغير الحجم غزير المعرفة والبيان، أمتاز بلغته السهلة وترتيبه الحسن، حيث ينتفع به كل قارئ من طالب علم وعالم دين.

ركز هذا الكتاب في دراسة علم التوحيد وآثاره في حياة الناس، وثماره في الدنيا والأخرة، وفصل في الدلائل على وحدانية الله سبحانه وتعالى، حيث ان الإمام ابن جزى – رحمه الله – اثراه بالأدلة القطعية من الذكر الحكيم، وايضا شمل عدة مسائل، وابتعد عن القضايا الخلافية، ويلاحظ فيه ان طريقة الاستدلال فيه للقضايا والأحكام، مبنية على طريقة القرآن وليس كما نراه في عموم كتب الأشاعرة من استدلال كلامي.

نهج الإمام ابن جزى الغرناطي في كتابه هذا منهج الأصوليين، فقد أبتدأ بالكليات في قواعد الكتاب الاساسية ثم أنطلق منها إلى الجزئيات والتفصيل في القواعد العامة، حيث انه قسم كتابه في ثلاث قواعد اساسية كما يلي،

  • القاعدة الأولى، الكلام في الإلهيات.
  • القاعدة الثانية، الكلام في الأنبياء والملائكة والأئمة والصالحين.
  • القاعدة الثالثة، الكلام في الدار الآخر.

حيث اندرج تحت كل من تلك القواعد عدة فصول تناقش القضايا الأساسية للقضية العامة بشكل أكثر تفصيل لتعطي اثبات تام للقاعدة المطروحة، وكل فصل منها اشتمل على فروع أخرى له من مسالك، الأوجه، او مسائل، وفي اخر هذا الكتاب فقد تناول ختام تميز به عن غيره من الكتب، فقد تم توزيعه في مجموعتين، وصايا للأخذ بها وهي أربع، وتحذيرات لاجتنابها..

القاعدة الأولى: في الكلام في الإلهيات

تعتبر القاعدة الأهم في الكتاب، حيث اشتملت على اربعة فصول، ناقش الكاتب من خلالها العديد من المواضيع المتعلقة بعلم التوحيد، مستندا بذكر الأدلة والبراهين على عقائد الدين، من القرآن الكريم، للارتقاء من التقليد والتلقين إلى العلم اليقين، فالإيمان الحقيقي ينبع من تصديق ويقين مطلق لا يصاحبه شك ولا ريب، وهذا اليقين لا يأتي إلا من البحث والتعلم والأخذ بحقائق وأدلة قاطعة على ما وجب التصديق به.

 وانطلق في الفصل الأول ليتحدث عن موضوع ايماني مهم للغاية، ألا وهو في إثبات وجود الله عز وجل رب العالمين وخالق الخلق أجمعين، وبالرغم من ان هذا الأمر ثابت ولا ريب فيه، فكل شي في الوجود يدل على وجوده سبحانه وتعالى، وعلى عظمته وقدرته وملكوته، إلا ان الإمام ابن جزى اهتم في هذا الفصل ليترسخ لدى المسلمين مفهوم الإيمان،  فالإيمان بعلم له اجر عظيم، فأعطى الكثير من الشواهد والأدلة العقلية والمنطقية من القرآن الكريم.

انطلق هذا الفصل ليتجزأ إلى ثلاثة مسالك لخص فيها الإمام ابن جزى مسألة الإيمان بوجود الله عز وجل، فكان اول تلك المسالك، الاستدلال على وجوده اعتمادا على ما نصبه من الآيات في الموجودات، كالأرض والسماوات والمخلوقات بشتى انواعها حيوانات ونبات والجبال والبحار والرياح والشمس والقمر والنجوم وغيرها العديد من المخلوقات، فالنظر فيها من حيث التكوين والتشكيل والقواعد التي تسير فيها، كل ذلك يدل على خالق اوجدها وصنعها وسيرها، تبارك الله احسن الخالقين. قال تعالى ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾[1]

وقال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾[2]

ومن آياته الكبرى خلق الإنسان كما جاء في قوله عز وجل ﴿وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ﴾[3]، واعظمها حكمة وإبداعا ما نشاهده في مراحل نمو الإنسان، حيث ابتدأ خلقه من نطفة من ماء مهين، ويتتابع الخلق والإبداع الإلهي في تكوينه ونموه حتى يصير طفلا حي ينطق ويتحرك، يخرج لهذه الدنيا، يزداد قوة وصلابة وتفكيرا ونضوج، ولو نظرنا إلى اساس تكوينه، نجد معجزة خلقية عظيمة ذات دلالة واضحة على وجود خالق في هذا الكون، وحده سبحانه وتعالى القادر على القيام بها، واثبت ذلك في كتابه الحكيم في آيات واضحة دالة على تلك المعجزة العظيمة، قال تعالى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾[4]

وكل ذلك يوجب علينا التصديق المطلق بوجوده سبحانه وتعالى، والنظر في آياته في الخلق التي هي دليل على عظمته وبديع صنعه، قال تعالى ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾[5]، فلا يمكن لأي انسان خلق شي مما خلق الله، ولا كائن له القدرة على خلق نفسه، مهما ملك من القدرة والعلم، فليس له قوة في شي مما خلق الله، قال الحق عز وجل ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾[6].

والمسلك الأخر في الدلالة على وجود الله عز وجل، يكون في الاستدلال على اخبار الأنبياء، فعند النظر في سيرة الأنبياء المختارين صلوات الله عليه، نجد الكثير من الأدلة المصاحبة لهم دلالة على صدق نبوتهم وصدق ما جاءوا به، فقد ايدهم الله بالمعجزات التي يعجز عن القيام بها سائر الناس، تصديقا وعونا لهم في تبليغ رسالة ربهم التي أرسلوا بها.

وقد اعتمد الإمام ابن جزى رحمه الله في استدلالاته من خلال طرح التساؤلات العامة التي تراود البعض، ليوصل رسالته بأسلوبه المختصر والسهل في شرح قضايا معقدة، فنجد في هذا المسلك تساؤل هام حول كيفية التصديق بأخبار الرسل المذكورين في الشريعة لمن لا يصدق بالشريعة اصلا، وكانت الإجابة مختصره في ان اخبار الأنبياء وما جارتها من احداث كبيرة في تلك العصور من اهلاك امم لتكذيبها بهم، وايضا اخبار بمعجزاتهم، لم ينحصر ذكرها في القرآن الكريم وحسب، بل تم الإخبار بها في العديد من الكتب السماوية الاخرى، وايضا دونت اخبارهم وتناقلتها الامم عبر العصور، كل ذلك فيه دلالة واضحة على صدق نبوتهم وتصديقا لما جاء به القرآن الكريم من ذكرهم، قال تعالى ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾[7]

ثم جاء المسلك الاخير لنص على ان الفطرة السليمة تشهد بوجود الله عز وجل، فالإنسان العاقل والسوي يرى ان الكون هذا لم يخلق عبث، وان هنالك حكمة من خلقه ووجوده في هذه الارض، فكل شي يدل على وجود خالق عظيم، فيجد الإنسان في نفسه النقص والافتقار للعبودية، ويسعى لملئ الفراغ الذي يشغل قلبه من الداخل، فيجد نفسه ممتثلا لعبادة رب السماوات والارض وخالق كل شي، اعتمادا على فطرة السليمة، والتأمل في خلق السماوات والارض وخلق الانسان نفسه، قال تعالى ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾[8]،

بعدها جاء الفصل الثاني ليحدثنا فيه عن مفهوم التوحيد ومعنى لا إله إلا الله والمقصود به الإيمان بوحدانية الله في الخلق والملك وتصريف الشؤون جميعها لا شريك له في الأمر وليس له صاحبة ولا ولد، وانه وحده المنفرد بالعبادة والشكر والصفات العلى وهو سبحانه وتعالى منزه عن كل عجز ونقص، وحده لا نظير له ولا منازع في الملك

قال تعالى.. بسم الله الرحمن الرحيم ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) ﴾[9]

والأدلة في هذا الشأن كثيرة للغاية سواء من القرآن الكريم او السنة او اي مصدر اخر، فجميعها تدل على وحدانيته وليس من شريك له في ملكه، ايضا ركز الإمام ابن جزى في هذا الفصل على مسألة الرد على النصارى في افتراءهم على الله، معتمدا على اجابته من وحي القرآن الكريم المصدر الأساسي والاول للتشريع، قال تعالى ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾[10].

وايضا الأخذ في مسألة عبادة الأصنام والرد عليهم في عدة تساؤلات تظهر مدى عجزهم عن الإجابة وظلالتهم وبطلان عقيدتهم، فتلك الأصنام لا تضر ولا تنفع. قال تعالى ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ۚ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾[11]

واخيرا مسألة الرد على المجوس في شركهم والتوجه لغير الله بالعبادة كالشمس والنار وغيرها من المخلوقات التي هي من خلق الله، وكذلك في قولهم ان الخير من النور والشر من الظلمة، واعتمد في الرد عليهم على ما سبق من الأدلة على توحيد الله ووجوده عز وجل.

وكذلك ما جاء في قوله عز وجل ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾[12]، وقوله تعالى ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون﴾[13].

وفي الفصل الثالث يتابع حديثه في اثبات صفات الله تعالى، وبان الله وحده المنفرد بكل صفات الكمال والجلال، وقد اخذ في هذا الفصل معتمدا على ثلاثة اوجه، اولها بان كل ما نفاه الله عن نفسه من صفات نقص وجهل او لا تليق به سبحانه، وجب وصفه بنقيضها من صفات الكمال الحسنة التي تليق به عز وجل. والوجه الاخر من خلال الأخذ بالصفات التي جاء بها الشرع في القرآن الكريم، وهي كثيرة جدا، لا تكاد تخلو سورة من القرآن الكريم إلا وقد ذكر وصف كمال له عز وجل، مثل قوله تعالى ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾[14]. اما الوجه الاخير وهو معني بالاستدلال على صفاته من خلال ما جاء به القرآن الكريم، كما في قوله عز وجل ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾[15] ومن خلال النظر في الآية السابقة نجد دلالة واضحة على صفة منفرد بها عز وجل، وهي القدرة المطلقة في تدبير جميع الامور.

وفي الفصل الرابع تحدث فيه عن تنزيه الله عز وجل عن كل عيب ونقص واتصافه بالكمال والجلال المطلقين، فالذي أحسن كل شي خلقه، لا يمكن ان ينقصه شي في صفاته وقدرته، وما كان الله ليعجزه شي من خلقه، قال عز وجل﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾[16] وقوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾[17]

القاعدة الثانية: في الكلام في الأنبياء والملائكة والأئمة والصحابة

تشمل القاعدة الثانية عدة مسائل هامة، جعل منها الاساس الذي قام عليه كتابه هذا، ومثلها في اربعة فصول فصل فيها الحديث عن تلك المسائل والاستدلال بالقرآن الكريم لإثباتها.

بدأ فصله الاول في اثبات النبوات، حيث ان هذه القضية تمثل الركن الرابع من اركان الإيمان، فلا يستقيم إيمان العبد إلا بأيمانه بالرسل والإيمان يعني به اليقين المطلق الذي لا يصاحبه شك ولاريب، وهذا اليقين امر داخلي مرتبط بقلب المرء، وهو بين العبد وربه، ولا يستقيم اليقين بشكل مطلق في وجود شك، لهذا اهتم الإمام ابن جزى بأثبات نبوات الأنبياء الكرام وصدق ما جاءوا به.

أخبرنا القرآن الكريم العديد من قصص الأنبياء والرسل في عدة مواضع، تصديقا لهم في نبوتهم، وتنبيها للعباد من بعدهم للاستفادة من تلك القصص ومعرفة كيف انزل الله عقابه على المكذبين الذين حاربوا رسله الكرام صلوت الله عليهم. قد جاءت الحكمة من ارسال الأنبياء والرسل في ثلاثة اوجه، اولها كانت الحكمة في ارشاد الناس وحل الخلاف الذي ظهر بينهم قال تعالى ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾[18]، اما الثاني يظهر الحكمة فيجعل الأنبياء واسطة بين الناس وربهم، حيث كان دورهم التبليغ لرسالة ربهم التي ارسلوا بها، ولولا حكمة الله هذه لضل الخلق واختلفوا فيما بينهم. قال تعال ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾[19]، اما وجه الحكمة الثالث من ارسال الرسل، فيظهر في إقامة الحجة على الناس وقطع اعذارهم، قال تعالى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾[20]

جاء الفصل الثاني ليناقش قضية هامة وهي الإثبات بنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين نبي الله محمد ابن عبدالله ﷺ الصادق الأمين، رسول ونذير للعالمين، فإن الإبلاغ بهذه المسألة فرض واجب على المسلمين كافة، فقد جاء النبي محمد ﷺ خاتم للأنبياء والمرسلين، برسالة خاتمة شاملة وناسخة لجميع ما سبقها، رسول لكافة الناس، قال تعالى في أمره لنبيه عن دوره العظيم في تبليغ رسالته للناس كافة ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾[21]، وكذلك اكد سبحانه وتعالى على ضرورة اتباع رسالته الخاتمة والدخول في دينه كونه الانفع والصحيح والذي حفظة من كل تحريف وضياع، قال تعالى ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[22]، وايضا اثبت صدق نبوة محمد ﷺ في الكثير من الآيات والسور وايضا في الكتب السماوية السابقة الشاهدة على صدق نبوة محمد ﷺ خاتم الأنبياء والمرسلين، وناقش الإمام ابن جزى هذه المسألة في العديد من الأوجه في اربعة مواضع..
في آيات القرآن الكريم، وفي جانب المعجزات التي انزلها الله على رسوله الكريم، وفيما حازه النبي من الفضائل الحسنة والجميلة، وايضا في العلامات والدلالات التي اخبرت بصدق نبوته قبل مولده، كل تلك تمنح اليقين المطلق بصدق الرسول الكريم ﷺ وصدق رسالته العظيمة.

وفي الفصل الثالث من هذه القاعدة، فقد اهتم بالحديث عن الملائكة واثبات وجودهم والتصديق بهم يعد ركن من اركان الأيمان، فهم عباد الله المخلصون خلقهم من نور، يعبدونه ولا يملون ولا يعصون الله في ما يؤمرون، وقد اثنى عليهم الله في العديد من الآيات العظيمة، كما جاء في قوله تعالى ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾[23]، وقوله تعالى فيهم ﴿وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ* يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾[24]، وقد اثنى الله عليهم في العديد من الآيات، ومن تفضيل الله لهم، فقد جعل الإيمان بهم بعد الإيمان به لعظيم شأنهم.

وجعل الله في كتابه ذكر لأسماء بعضهم تقديرا لهم، واخرين اشار لهم بأعمالهم وما وكل إليهم من مهام في الدنيا والأخرة، وهذا دليل على إخلاصهم في خدمته سبحانه وتعالى.

اما الفصل الرابع فقد اختصر الحدث فيه عن الصحابة والأئمة من بعدهم رضوان الله عليهم، ودورهم العظيم في نشر رسالة الإسلام، وتحدث عن استحقاق الصاحبة الكرام منصبهم في الخلافة بعد رسول الله، وايضا استدل بآيات قرآنية اظهرت محبة الله لهم ورضوانه عنهم لما قدموه في سبيل الدعوة لدينة، ومساندة نبيه الكريم. قال تعالى ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾[25]

وهكذا انتهت مسائل القاعدة الثانية في الكتاب بعد الحديث في عدة فصول اولها في الحديث عن الانبياء واثبات بعثة النبي محمد ﷺ خاتم الأنبياء والمرسلين بشيرا ونذيرا للناس كافة وهو الفصل الذي دار حوله اغلب حوار هذه القاعدة، ثم الايمان بالملائكة ووجودهم واخرها كان الحديث عن فضل الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم.

القاعدة الثالثة: في الكلام في الدار الآخرة

توزع الحديث في هذه القاعدة على اربعة فصول، اولها في اثبات المعاد وهو من الأمور الغيبية التي امرنا الله بالتصديق بها يقينا، وانزل الآيات الدالة على صدق هذا اليوم، وصدق قيام الساعة وما يصاحبها من احداث وعلامات، من احياء الموتى، وحشر الخلق ، والحساب والعقاب، وجاء الفصل هذا ليثبت صدق وامكانية هذا الموعد من خلال النظر في ثلاث نقاط، الاولى وهي قدرة الله على اعادة الحياة والاجسام بعد الفناء، كما انشاءها اول مرة فهو واحد القادر على اعادتها مرة اخرى قال تعالى ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾[26]، الثانية وهي النظر في قدرة الله ومعجزة خلق السماوات والأرض والتي هي اعظم واكبر من خلق الإنسان واحياء الناس بعد الموت، قال تعالى ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ۚ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[27]،والثالثة تتمثل في الدلالة على قدرة الله في احياء الموتى من خلال احياء الأرض بعد موتها وانبات الزرع، فيخرج النبات الحي من الحبة التي هي ميت، وهذه معجزة عظيمة تشابه معجزة ايحاء الموتى يوم القيامة، قال تعالى ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا ۚ كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ﴾[28]

اما الفصل الثاني جاء ليتحدث عن امر اخر وهو فترة ما قبل يوم القيامة، واخذ منها فترة ما بعد موت الإنسان إلى قيام الساعة، من تلك الأمور سؤال الملكين وعذاب القبر، قال تعالى ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ* النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾[29] وايضا اشراط وعلامات الساعة مثل خروج الدجال، وطلوع الشمس من المغرب، ويأجوج ومأجوج، وغيرها مما تمثل العلامات الكبرى لقيام الساعة. وايضا ورد في ذكر علامات الساعة عدة أحاديث نبوية صحيحة.

وفي الفصل الثالث يحدث الإمام ابن جزى عن يوم القيامة واحواله، والتي ذكرت فيه العديد من الآيات، وصورت تلك الآيات بعض من الأهوال والأمور التي تصاحب قيام الساعة ووجوب الأيمان بها، كالصراط، والميزان، والحساب، والقصاص وقراءة كتاب اعمال الإنسان، من تلك الآيات قال تعالى ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا﴾[30]. وقال تعالى ﴿نَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾[31].

اما الفصل الرابع وأخر فصول الكتاب ككل، فيتحدث عن الجنة والنار، وهما النقيضين، فتمثل الجنة دار النعيم والثواب جزاء للمؤمنين الصادقين، والأخرى النار والتي تمثل دار العقاب والعذاب، جزاء المكذبين بالله ورسوله والمجرمين، ذكر الله في آيات كثيرة في كتابه الكريم الدارين، آيات مبشرا للمؤمنين والمتقين بالجنة الأبدية، وآيات متوعدا بالنار مأوى للظالمين والمكذبين والمشركين ولا يخفف عنهم العذاب جزاء لما عصوا. وهما امر حق، وما هذه الدنيا إلا اختبار نكافئ عليه في الدار الأخر إما بالحسنى او العقاب جزاء لما قدمناه في حياتنا، قال تعالى في الجنة ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾[32]، وقوله ﴿للَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ﴾[33]. اما في شأن جهنم وعذاب الأخرة فمن الآيات الدالة، قوله تعالى ﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ﴾[34].

الخاتمة

يمثل هذا الكتاب، واحد من اهم كتب التوحيد التي ناقشت مسائل متعددة بطريقة متفرعة، تسهل القراءة وفهمها، كما ان جماله ظهر في بساطته ولغته السهلة، وتلخيصه لمسائل التوحيد المعقدة في صفحات قليلة، وعدم التطرق للمسائل التي ظهر فيها خلاف، حتى أصبح كتابة مرجع للعديد من الأئمة من مختلف المذاهب.

ومن رايي الشخصي بالرغم من اعجابي الشديد بالكتاب وطريقة سردة لمواضيعه بأسلوب جميل ورائع وسهل القراءة، إلا اني اظن انه لم يغطي مواضيع مهمة في علم التوحيد، واقتصر الحديد في صفحات قليلة وبدون الاعتماد على حجة مقنعة كون الكتاب يمثل مرجع للعديد من الدعاة للإسلام، لدعوة غير المسلمين، فكيف يمكن دعوة إنسان غير مسلم ولا يصدق بشريعة الإسلام من خلال ادلة من نفس الشريعة، فهذا غير منطقي لا يقبل به غير المسلم كبرهان قاطع، كون الخطاب والإقناع مع غير المسلم، مازال محصورا في الأدلة العقلية والمنطقية، قبل التوجه لأدلة من ذات الشريعة.

ايضا ترك موضوع مهم في علم التوحيد، وهو الإيمان بالقضاء والقدر وكيفية ذلك والأدلة عليه عقليا وشرعيا، كونه مرتبط بما سبقه من مواضيع، وكذلك اختصر الحديث في بعض المواضيع بعكس بعض الكتب الأخرى التي ألفت في الموضوع الواحد العديد من الكتب والمجلدات، وتطرقه لموضوع الحديث عن الصحابة والتابعين رغم عدم وجود صلة لذلك في الموضوع الأساسي للكتاب وكان من الأفضل الحديث بشكل ادق في موضوع الملائكة.

اما من الجوانب التي اعجبتني في الكتاب، ردة على التساؤلات المطروحة، وايضا الرد على النصارى بشكل مختصر وقوي، ورده على المكذبين والمشركين، كان في اسلوبه بطرح التساؤلات ثم الإجابة عليها، قوة تشد القارئ نحو التفكير والتدبر في تلك القضايا.


[1] سورة آل عمران، الآية 190

[2] سورة البقرة، الآية 21

[3] سورة الروم، الآية 20

[4] سورة المؤمنين، الآيات 12 إلى 17

[5] سورة الذاريات، الآية 21

[6] سورة الطور، الآية 35

[7] سورة الأنعام، الآية 11

[8] سورة الروم، الآية 30

[9] سورة الإخلاص، الآيات 1 إلى 4

[10] سورة النساء، الآية 171

[11] سورة الزمر، الآية 38

[12] سورة الأنعام، الآية 1

[13] سورة فصلت، الآية 37

[14] سورة هود، الآية 107

[15] سورة يس، الآية 82

[16] سورة الشورى، الآية 11

[17] سورة فاطر، الآية 44

[18] سورة البقرة، الآية 213

[19] سورة الكهف، الآية 56

[20] سورة الإسراء، الآية 15

[21] سورة الأعراف، الآية 158

[22] سورة الأعراف، الآية 158

[23] سورة الأنبياء، الآية 26

[24] سورة الأنبياء، الآية 19

[25] سورة التوبة، الآية 100

[26] سورة يس، الآية 79

[27] الأحقاف، الآية 33

[28] سورة ق، الآية 11

[29] تفسير سورة غافر، الآيات 45 إلى 46

[30] سورة الانشقاق، الآيات 7 إلى 12

[31] سورة الأنبياء، الآية 47

[32] سورة ق، الآية 31

[33] سورة آل عمران، الآية 15

[34] سورة طه، الآية 74